قصة ميلاد أديبة روائية مصرية

26_hoda-anwarقصة هذا الأسبوع قصة كاتبة شابة حصلت على بكالوريوس إقتصاد وعلوم سياسية. وقامت بدراسة الأدب العربي فى أوقات الفراغ من كثرة شغفها به وحبها للكلمات.  أصدرت مؤخرا روايتها الأولى “صوفي” بعد قصة أحداثها متعددة ومؤثرة تحمل بين طياتها البعد عن الشغف وتركه ثم العودة اليه بكل قوة وحماس.  قرأت الرواية التي توقعتها ان تكون مقبولة و في أحسن تقدير ممتعة.  والحقيقة اني وجدتها ليست مجرد رواية لكاتبة محترفة بل هي وسيلة حياة يستطيع كل قارئ من خلالها ان يجد نفسه ويعيد تقييم ذاته وتقييم من حوله وما مر به.  اليكم قصة هدى أنور كما كتبتها هي بأسلوبها الثري الجميل

ولدت فى أحد أيام العام الغريبة، يوم يرحل فيه الصيف ويأتى الخريف، كانت أول أيام عمرى خريفا عشته مع والداى اللذان كانا لتوهما قد بدآ حياة من نقطة الصفر، وأعلم أنى كنت تاج هذا الخريف بالنسبة لهما، الخريف الذى مر على والداى بالكثير من الكفاح من أجل بناء حياة وأسرة كنت أنا أول أطفالها، ومر علينا شتاء قاسى ثم جاء الربيع، هذا الربيع كان ربيع أسرتنا وربيعى أنا أيضا، فقد تفتح قلبى للحياة، طفلة فى التاسعة من عمرها تستطيع أن تقرأ وتنفق كل ما أعطاها اياه والديها على شراء قصص الأطفال التى كانت على رغم بساطتها تأخذنى الى عالم سحرى كنت أريد أن أغوص فيه أكثر وأكثر، ثم تعاقب علينا الصيف وأشرقت الشمس وأنا كبرت أكثر لأكون تلك الفتاة فى الرابعة عشر من العمر، ، لا أدرى ماذا يسمون هذا السن فى حياة الأشخاص، البعض يصنفونه كسِن الطفولة والآخر يعتقد أنه سن المراهقة، ولكن بالنسبة لى كان سناً لا يُمكن تصنيفه بأى حالٍ من الأحوال، فأىُ طفلة أو مراهقة تقرأ لفرويد والعقاد، جبران خليل جبران وغيرهم من الكُتاب الكِبار، وأىُ طفلة هذه التى تُمسِكُ بالقلم فى يديها كريشة فى جناح يمامة تطير إلى آخر العالم وتدخل مُدنَ السحر، تصعدُ إلى السماء وتهبطُ إلى أعماق الماء ثم تحُطُ وتخطُ بقلمها كل هذا على الورق الأبيض فيصيرعالماً داخل الصفحات

.هكذا كنتُ وبدأتُ فى عامي الرابع عشر رحلتي مع القلم، الذى كان يحملنى إلى حيث أردت أن اذهب وقتما شئت، وحتى عامى العشرين كانت الكتابة تجرى بروحى مجرى الدم بالعروق، ولأننا فى كأطفال كنف العائلة لا نعبأ ولا نبالى فإن لنا أن نذهب إلى تلك العوالم الوهمية ولنا أن نحلُم ولنا أن نُبدع وأن نعتزل من أجل هذا الإبداع، بلا قيود أو مسؤليات

رافقنى القلم حتى حملنى الى الجامعة إرتدتُ الجامعة كغيرى من الطلبة وأخذنى تيار المنظومة التعليمية، وكنت مازلت أتمسك بقلمى، ولأنى كنت طالبة إقتصاد وعلوم سياسية فإن كلية آداب اللغة العربية كانت على مرمى العين وكانت ملاذى إلى الأدب العربى، فما كان منى إلا أن إرتدت هذه الكلية فى أوقات الفراغ، والتى كانت كثيرة بالفعل، مقتطعة من وقت دراستى الأساسية، ولكنى قرأت ما استطعت من كتب الأدب القديمة بالمكتبة الكبيرة العظيمة بكلية الاداب بجامعة القاهرة، ثم أنى إرتدت ورش العمل الأدبية ومحاضرات الشعر والعروض والقافية، وكنت كطفل وضعوه بمحل الحلوى المُلونة التى طالما حَلم بها، فالتهمتُ ما استطعت بنهم وإقبال شديدين، ثم أنى كتبت وطلبت من أستاتذتى تقييمى وتصحيح كتاباتى وتوجيهى.. أربع سنوات من التحصيل الأدبى الثرى هى عُمر تأصل فى وجدانى واندمج بنسيج روحى ولا مفر أو هروب منه… ولكنى هربت كمن يهرب من حبيب أثقل عليه وجوده وتواجده الطاغى، كمن يفر من عاشق لا يعرف كيف يتعامل معه من هذه النقطة صاعدا! ي

تخرجت من الجامعة، ولو كانوا يعلموا لحرروا لى شهادة شرفية إلى جانب شهادتى الأساسية تقرُ ببراعتى فى إستقبال وتحصيل الفنون والاداب، ولكنهم لم يفعلوا لأنهم لا يدرون، ومن أدراهم، ومن يهتم، أظن لا أحد فعل، وفعلت مثلهم

تم تعيينى بأكبر الشركات الأجنبية وتدرجت فى المراكز ونجحت فى عملى نجاحاً كبيراً، وتراجع الحُلم إلى الوراء عشر خطوات تارة ثم عشرون  وهكذا دواليك حتى إختبأ فى منطقة ما وأحسب أنه كان حُلماً حزيناً لأنه لم يولد ولم يرى النور، وأظن أنى لم أكن سعيدة أيضاً، فأحلامنا حين تحزن يُصينا الحزن نحن أيضاً ونظن أن الأسباب غير واضحة لما نشعر به، ولكنها واضحة كوهج الشمس، إنه الحُلم النشيط الذى أجبرناه على التراخى والتراجع، إنه هو الذى يشعر ويُحس ويتألم ويؤلمنا بالتبعية معه

ستةُ عشرَ عاماً من النُعاس تسببت بهم، كأهل الكهف نامت أحلامى إلى وقت غير معلوم وجف القلم بأعوام الرمادة الأدبية ولكن إن كنت يوماً ما عاشقاً حقيقياً سيجد حُلمك طريقه إلى النور، لا محالة

صارعنى العطش للكلمات، فكنت كلما دنوت منها قاومتنى وأبت أن تولد، ولكن قدر المولى عز وجل أن ألتقى يوماً ما بأحد أكثر الأشخاص نجاحاً فى مجال تحديد الشغف والعمل به، ومن هذه الورشة العملية قال الإختبار أن شغفى هو الكتابة، لقد حدد الإختبار وطبع بما لا يترك مجالاً للشك عشقى الأول والأخير، عشق الكَلِم والقَلَم وعشقى للمساحة البيضاء أغزوها كالمطر فتُنبت مساحات شاسعة من الخضار وتفتح افاق الأمل والتمنى

كشف الإختبار النقاب عن المعشوق وتركنى لا أدرى كيف سألقاه وبأى وجه بعد سنوات طويلة من الفراق والجفاء، أأذهب إليه أم يأتى هو؟ لا  أدرى حقاً، وكان من الجلى أن على الذهاب إليه لأنى أنا من إختار الفراق على البقاء، ولكن لا أعلم كيف أفعل، ثم حاولت الهروب مرة أخرى، فى محاولة للمراوغة والتسويف، وكان الهروب إلى مدينة لا يوجد مثيل لها على الأرض : مدينة الله

سافرت إلى سانت كاترين بإصبع مجروح كالجُرح الغائر فى روحى، أخذت الأوراق والأقلام وأنا بين الإقبال والإدبار عن هذا الحُلم برمته.  ولكن شيئاً ما حدث فى هذه المدينة الجبلية البهية ذات الحسن البرى الذى لا يشبه شيئاً فى هذه الحياة،شىء أكبر من كل الكلمات، رأيت شبحاً ما يقبل على، لا يطاردنى، بل يمر من أمامى مبتسماً فاتحاً ذراعيه لى، وأنا خائفة، خائفة من الإقبال ومن الحُب والإبتسام وكل شىء، كان يظهر لى عند كل صخرة أمر بها وكل سماء أمشى تحتها حتى أنى فكرت فى الذهاب إليه والتحدث معه، ولقد فعلت! حين أدركت أن هذا هو حُلمى يريد الإذن بالإقتراب والإقتران، وهو يعلم أن الحب ليس إجباراً، كان كل ما يكفيه إيماءة واحدة حتى يدنو ويقترب ونلتقى ونتبادل العتاب ثم نمضى فى طريقنا سوياً

ولقد سمحت له بالإقتراب، وأكثر ما عرفت عن نفسى من العتاب الذى دار بيننا هو أن قلمى كان خائفاً مرتعشاً مرعوباً.  من ماذا ؟؟؟  إن إنخراطنا فى الحياة العملية يجعل منا جُبناء، نعبأ لأراء الناس، ولقد عبأت مراراً وتكراراً دون وعى – وأنا أتصارع مع القلم والأوراق – عبأت بما سيظن الناس فيما أكتب وكانت هذه عثرتى الكبرى والعقبة التى على أن أتخلص منها نهائياً وإلى الأبد

حين ننوى التخلص من شىء ما فإنه يجد طريقه إلى الرحيل دونما عناء منا.  ولا يوجد ما يسمى بالمصادفات، فلقد عُدت من سانت كاترين وولدت فكرة صوفى – روايتى الأولى

انتهيت من نصف الرواية وتوقفت الأفكار وتوقفت عن الكتابة ، وعُدت إلى سانت كاترين مرة أخرى، ولكن هذه المرة كانت تختلف عن كل ما عرفته، فلقد أخذ فريق ساتورى على عاتقه مهمة إزالة العقبات التى تعترض طريقى إلى الإنتهاء من روايتى، وكانت رحلة بحث فى الذات ثرية وقاسية جداً

فى قلب الجبال الشامخة الراسخة، واجهت مخاوفى التى يئن قلبى من ثِقلها، وعرفت أن الخوف إما أن يسد الطريق أو يمهده، وكان خوفى إنسداداً فى شريان الحياة، شريان وجرى حياتى كلها، إن الجبال تُخيفك وتحتضنك فى آن واحد حتى تُدرك أنه ما من عيب فى الخوف وأنك عليك أن تحتضن خوفك ليعمل معك وليس ضدك. لقد علمتنى الجبال العناق الطويل مع أحلامى والإلتصاق بها حتى لا أفقد روحى

ولكن لم يكن الخوف هو عدوى الوحيد فى رحلتى تلك، فلقد عدت من سانت كاترين وأنا أعلم كيف سأنتهى من هذا العمل الذى كنت قد بدأت فى الانصهار به يوما يليه الآخر، ولكن القدر شاء أن يتحول طريقى وأنا اواصل الانتهاء من روايتى الأولى، ففى ديسمبر لعام 2015 انتقل والدى وصديقى  وأغلى الناس الى الرفيق الأعلى، لم أكن أريد أن أواصل ولكن كان على أن أواصل لان أبى علمنى ألا أستسلم وألا أتوقف مهما كانت الأسباب، وواصلت، واصلت برواية لم تكتمل بعد وأم حزينة وحيدة نالها المرض بعد موت أبى فلم تستطيع المواصلة وفى أقل من عشرة أشهر على رحيل أبى التحقت به فى الرفيق الأعلى! ق

كان حريا بى أن أنكسر واتحطم، ولو كنت فعلت ما لامنى أحد لان ذلك كان هو رد الفعل الطبيعى لأى انسان واجه مرض وموت أبويه فى أقل من عام، ولمنى اخترت ألا أفعل، اخترت ألا أسقط، هى الحياة ما هى الا اختياراتنا، وكل ما سنتختار سنحصل عليه، وأنا اخترت أن أقف على قدماى، حتى لو كان قلبى يدميه الوجع ويقتله الحزن، سيظل أذرى مشدودا مهما كلفنىى الأمر

انتهى العمل، وكنت بحزنى وألمى وقواى التى استجمعتها، أزحف بخطوات بطيئة وثقيلة لتخرج صوفى الى النور، هذا الظلام الذى كنت أسير فيه لم يرهبنى وكنت أعلم أنه ليس النهاية وأنى سأخرج الى النور، كنت أعلم أنى لن أضحى بهدم بناء والدى، هذا البناء هو أنا، وأنا لن أهدم أنا، لن أهدم هذا الصرح الذى كان على وشك أن يخرج الى الحياة…ي

لقد تعلمت أن الحياة لن تكف عن الصعاب، وأننى قد أفقد الكثير وقد أحصل على الكثير، وأننى قد أصاب بالكثير من الحزن والكثير من الفرح… وفى كل الأحوال لن أتوقف ولن يضعفنى أو يهدمنى شىء… واليوم، أخرج من هذا الظلام إلى النور الساطع اللماع، أخرج إلى العالم لأخبر الجميع أنى وأحلامى أشداء على الحياة ومصائبها، ونحن ماضون فى الطريق إلى آخر المطاف… مهما كلف الأمر

Leave a comment